في وصف مصر
القديمة
حمدت الله علي كل شئ .. و أكملت سيري .. ولكن التعب كان قد نال منيّ .. قدماي لم تعد تقوي علي حملي .. وجف حلقي .. الشمس وكأنها تعاقبني علي حماقاتي .. ها أنا ألمح ثلاجة ( كولدير ) من بعيد .. أقترب آخذ جرعة ماء مضاعفة لتساعدني علي متابعة رحلتي .. استعدت جزء من طاقتي أثر الشرب .. أسير الآن بشارع ( أبي سيفين ) الشهير بمنطقة مصر القديمة .. امر أمام محطة مترو الملك الصالح
يقال أن المحطة سميت بهذا الأسم لسبب تاريخي
فعندما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب .. أرادت شجرة الدر زوجته أن تتكتم علي خبر موته .. خشية أن يعلم الجنود .. فيصيبهم الإحباط في حربهم مع الصليبيين .. فوضعت جثته في تابوت و ألقته في نهر النيل .. سار التابوت في النيل حتي أستقر في منطقة منيل الروضة الآن .. لذلك فسميت المحطة بهذا الأسم
كفانا درس التاريخ هذا .. و لأكمل مسيرتي .. عن يساري الآن مساحة خضراء محاطة بسور حديدي .. و لكن مجموعة من الصلبان مغروسة في هذه المساحة الخضراء .. أتضح الأمر الآن أنها ( مدافن الأمريكان ) كما تقول اللافتة .. و مساحة شبيهة ملاصقة لها و لكن يفصل بينهما سور حديدي كتب علي لافتتها ( مدافن الألمان ) .. يبدو أن هولاء قد جازفوا بال75قرش الأخيرة ، فلم يستطيعوا أن يُدفنوا في بلادهم
طفل الشماتة
مازالت أسير محاذيا لسور مترو الأنفاق .. ها هو طفل صغير نجح في الحصول علي جنيها كاملا من والده بعد معركة دامية .. كم أحسده علي ثراءه
يالك من محظوظ .. آه لو تعلم أنك أغني منيّ بكثيرفي هذه اللحظة
يبدو أن الطفل سمع حديثي مع نفسي .. و أما قد أخذ خبرا بأفلاسي .. لأنه أخذ يلوح بالجنيه في يده عندما مررت من جواره .. ليس هذا فحسب و لكن الغريب أنه أخرج لسانه ليّ . و كأنما يتعمد أن يجعلني أغتاظ .. أنسي أمره فلعله لن يدرك قيمة الجنيه هذا و سيذهب ليشتري به حلوي تهشم أسنانه
أتجه للثلاجة ( كولدير ) لأشرب مرة ثانية .. فليرحم الله كل من يساهم في وضع هذه الثلجات للمارة .. كم يجنوا من الثواب علي ما يفعلوه من خيرا في العطاشي .. مع كل جرعة ماء جديدة و كأنني أبعث للحياة من جديد
و خلقنا من الماء كل شيئا حي
صدق الله العظيم
هذا هو شاب اصطدم بجدار الواقع الخرساني .. و ادرك أن البطالة داء لا دواء له .. فاعتمد علي نفسه .. وضع أمام منزله منضدة صغيرة و عليها تليفزيون و جهاز بلاي ستيشن تو و أمامهما كرسيين .. حشد من الشباب يتسابق علي الفوز في لعبة كرة القدم
آه لو لم يكن الرهان حرام .. لكنت دخلت و لعبتهم .. وحينها سأضمن أن أدخل شقتي من فوق لا من تحت .. و ذلك بعدما أركن الهليكوبتر علي سطح بيتي .. و لكن
التعب في الحلال خيرا و أنفع من الراحة في الحرام
مسجد .. عمرو بن العاص
ها أنا الآن أمام مسجد ( عمرو بن العاص ) .. أول مسجد في مصر و أفريقيا .. و رابع مسجد في الإسلام .. شيده الفاتح ( عمرو بن العاص ) بأمراً من الخليفة ( عمر بن الخطاب ) رضي الله عنهما .. و هذه المنطقة التي أسير فيها الآن لمن لا يعرفها كانت هي مدينة الفسطاط التي أسسها الفاتح ( عمرو بن العاص ) لتكون أول عاصمة إسلامية في مصر
نطاق أمني واسع و سيارات شرطة .. فالمكان الذي سوف أدخله الآن هو مكان أثري قبطي شهير .. مقصدا للسياح الأرثوذكس .. هو شارع ( ماري جرجس ) .. عن يميني الآن مجموعة من البازارات .. و عن يساري الكنيسة المعلقة الشهيرة .. يليها الحصن الروماني الشهير حصن بابليون .. سميت الكنيسة بالمعلقة لأنها بنيت علي برجين من أبراج هذا الحصن
طفل الدولار
ها هو طفل مشاغب .. لغته الأنجليزية كلها ما هي الا كلمتين .. ( ون دولار ) .. يقف أمام سائحين يابانيين شاهرا يده قائلا : ون دولار
الأحمق لا يعلم أنهما لن يفهما ، لأن العملة اليابانية هي الين
الجوع يتسلل إليّ .. اسمع صراخا .. استشعر مصدره .. أنهما قدماي
أخرج من هذا الشارع الأثري .. لأدخل في منطقة عجيبة ليست بها شوارع .. بل هي مجموعة من الحواري المفتوحة علي بعض .. منطقة عشوائية للغاية .. الناس هنا بسيطة .. مجموعة من ربات البيوت يجلسون أمام عتبات منازلهم .. لتقشير الكوسة و تخريط الملوخية و خلافه .. أنهم أدركوا أن هذا الجو أفضل من جو المطبخ الحار .. أن كانوا أساسا يملكون واحدا .. فحياتهم بسيطة خالية من التعقيد .. مجموعة أخري من النساء بدءوا جلسات النميمة .. النميمة اليوم علي ( أم حسين ) .. أسال شخصا يمر من جواري علي الطريق للخروج من متاهة السندباد هذه
أحمد الله .. فلم يكن الحظ السئ حليفي طوال الوقت .. لقد أشتريت ( باكو ) مناديل ورقية صباحا من ال5 جنيه .. ها لم يتبقي سوي منديلين .. لا يهم .. فأنا اتصبب عرقا
أمشي علي أمتداد الطريق السريع .. و علي يميني منطقة أكثر عشوائية من سابقتها .. البيوت مبنية علي قمم شبه جبلية .. بعدها منطقة صنع الجير و الفخار .. عمال بسيطون للغاية .. يصبون الكرانيش السقفية و السرر و خلافه .. لولاهم ما أصبحت بيوتنا جميلة .. و آخرون يصنعون الأواني الفخارية .. لولاهم ما أكلت طاجن البطاطس باللحم .. في وسط كل هذا تستقر بيوت من دور أو دورين علي الاكثر
طفل المافيا
ها هو طفل صغير مزعج .. متنبأ له بزعامة المافيا .. يمسك عصا و يضرب بها ثلاث خراف صغيرة .. الخراف تجري منه .. يأتي خلفهم و يعاقبهم علي أنهم لم يتلقوا الضرب بسعة صدر
آه لو يعلم خروف واحد فقط كم ميلاً سيجري هذا الطفل ، لو فقط مارس أقل حقوقه في الحياة و ( مأمأ ) في وجهه
و لكن يبدو أننا في عام الصمت ، هذا أن كان هذا العام من النوعية التي تحترم ذاتها ذات ال 365 يوم ، و لكني لا أعتقد ذلك
المدينة
لا يوجد فاصل بين هذه العشوائيات و تلك المدينة الجديدة ، و كأنه خط وهمي يفصل بين الفقر و الثراء ( يالها من طبقية ) .. أنها مدينة الفسطاط الجديدة .. أدخل فيها لأتخذ من ظلال مبانيها درعا واقيا من حرارة الشمس .. الهدوء هنا سمة أساسية .. كم يساعد هذا الهدوء المفتقد علي الإبداع .. رغم ذلك لن تصل هذه المدينة لمرتبة تلك المدن الجديدة التي نشاهدها في التليفزيون
وهنا .. من هذا ؟ .. هل هو فعلا؟ .. أم شبيه .. أنه هو أيضا ينظر ناحيتي .. يقترب .. أنه يقترب منيّ
يحتضني قائلا
أبو صلاح ، إيه الصدف الجامدة دي
يااااااا معقول ، عامل إيه يا محمد وإيه أخبارك ، و بتعمل إيه هنا
أنا ساكن هنا ، أنت اللي بتعمل هنا إيه
أنا في واحد صاحبي ساكن هنا ، جاي أزوره
و قبل أن يتهمني أحد بالغباء .. لأنني لم أطالبه بفلوس مادام هو صاحبي .. نعم هو يمكن أن يكون صاحبي .. و لكن صاحبي من الدرجة الثالثة أن جاز التعبير .. تلك الدرجة التي تخجل ( يالهذه الكلمة المملة ) أن تطلب منها مثل ذلك الطلب .. أني حتي لا أعرفه أسمه الثنائي .. هذا سبب .. و السبب الآخر هو أنه لم يتبقي الا القليل .. فما هي الا ساعة حتي أصل أن شاء الله
ياليته كان محموداً أو طارقاً أو معتزاً أو محمداً غيره أو حتي عبد الرحمن النائم الآن في بيته
وودعته .. و أستكملت مشواري .. نال منيّ التعب شوطا .. بل شوطين و الوقت الإضافي أيضاً .. العطش شديد .. المنديل الأخير في يدي قد تحول إلي عصارة معجون المناديل .. العرق يتسلل إلي داخل عيني فيحرقها بملحيته .. لم يعد ظهري مستقيما بل انحني من كثرة المشي .. دقيقتين في الشمس الحارقة و سأتحول إلي بني آدم مشوي يصلح كوجبة تقدم في محلات كنتاكي للحوم البشر
يصرخ صندلي قائلا
لقد تعبت .. لقد هلكت .. اريحني قليلا و ساستكمل معك
اصمت يا أحمق .. أنا من أملكك .. و لست أنت من تملكني .. لماذا صنعت أن لم يكن للسير
ينظر صندلي إلي الأرض .. فهو من هذا النوع الذي يتأدب بالصياح فيه فقط .. و لا تحتاج لضربه
تشترك الآن فقرتي الأخيرة من عمودي الفقري في الصياح مع قدماي و صندلي
أخرج علي الطريق السريع .. هاهي خيالة الشرطة إلي يميني .. عيون تنظر ليّ من سيارات مسرعة و كأنها تقول
ما الذي جاء بهذا المجنون في هذا الوقت من العام إلي هذه البقعة من العالم
منطقة الكوابيس
يستيقظ أحد المسئولين ذو المنصب الرفيع ليلا مذعورا و يردد
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
تأتي له زوجته بكوب ماء قائلة : خير اللهم ما أجعله خير .. كابوس تاني؟؟
كابوس فظيع .. لقد رأيت نفسي و أنا أمشي بسيارتي من منطقة عزبة خيرالله
هذه هي منطقة عزبة خيرالله التي تقع علي مشارف حدود دارالسلام في كلمات بسيطة ..أما في كلمات معقدة .. فشوارعها تحولت إلي مجموعة من برك المستنقعات و المجاري العفنة .. أن كانت هذه أساسا تسمي شوارع بتعرجاتها و مطباتها التي تزعج السائر علي قدميه .. فما بالك بالسيارات .. تلال من القمامة علي الجانبين .. أشعل فيها الناس النار ليتخلصوا منها .. دخان كثيف و رائحة احتراق مخنقة .. كمية رهيبة من الملوثات .. مجموعة من سائقي المكروباصات يتشاجرون .. تركوا سياراتهم في منتصف الطريق .. الركاب ينادون علي السائق .. فهم حتي لا يستطيعوا أن ينزلوا لأن السيارة تقف وسط بركة من مياه المجاري .. كتمت أنفاسي حتي لا أختنق و أسرعت من خطواتي
أحمد ربنا أيها المسئول أنك رأيت نفسك داخل سيارتك في كابوسك .. فماذا كان سيحدث لك لو كنت سائرا علي الأقدام
شخص يركب دراجة يمر من جواري .. أحسده .. سائق لعربية كارو .. أحسده أيضا
رسميا ها أنا عبرت حدود دار السلام .. و لكن يقرب حوال ثلث الساعة لأصل لمنزلي .. أدندن حتي أتناسي الوقت
أحمد الله الذي جعلني أصمد حتي الآن .. هاهو شارعي يلوح ليّ من بعيد
أدخل شارعي فلا أتذكر غير جملة واحدة من أغنية لعبد الحليم حافظ .. ياصحابي يا أهلي يا جيراني ، أنا عايز أخدكوا في أحضاني
عم محمد الحلاق يقف علي عتبة محله .. أرفع رأسي الثقيلة لألقي عليه السلام .. (سلامو عليكم) تخرج منيّ مصحوبة بالوضع سايلنت فلا أسمعها .. وهو أيضا لم يسمعها .. لأنه لم يرد السلام
ها هو منزلي .. أخيرا عرفت قيمتك .. أنت أهدي مكان في العالم
أنظر لصندلي
أوعده بوجبة ورنيشية تلميعية
أوعد قدماي بوجبة ساخنة مقرها تشت ميه بملح
أوعد دنياصورات بطني بوجبة غداء مضاعفة
أوعد رأسي و عضلات جسمي بوجبة نومية طويلة
أحمد الله أن أبي أختار الدور الأول حينما تزوج أمي .. أضغط علي الجرس لأني لا اقوي علي إدخال يدي في جيبي لأستخراج المفتاح .. يُفتح الباب .. ألقي نفسي علي أول كرسي .. أخلع صندلي .. انظر لقدماي .. أنهما تورمتا بالطبع .. أرفع رأسي الثقيلة إلي ساعة الحائط
كنت قد خرجت من مبني الإذاعة و التليفزيون الساعة الثالثة ألا ربع .. و عندما دخلت بيتي دقت السادسة تماما
و لكن في النهاية
وصلت بحمد الله